نموذج تلاميذي لتحليل ومناقشة قولة فلسفية


النموذج التطبيقي:  " هكذا نكون قد حددنا لكل من العقل والتجربة موقعيهما في نسق الفيزياء النظرية، فالعقل يمنح النسق بنيته، أما معطيات التجربة فيجب أن تكون مطابقة تماما لنتائج النظرية " حلل هذا القول وناقشه

     إن الإنسان لم يكتف فقط بالعيش في العالم كمعطى طبيعي، بل سعى خلال مسيرته التاريخية إلى فهم وتحليل وتحديد القوانين التي تحكم الأشياء من حوله ، ولذلك نجده قد استعان في ذلك بداية بالنظريات الأسطورية قبل أن يهتدي إلى الفلسفة وصولا إلى المعرفة العلمية كمصدر للحقيقة والتي تصاغ غالبا في نظريات تجريبية أو عقلية. والقولة قيد التحليل والمناقشة تتأطر ضمن هذا السياق النظري العام المتمثل في مجزوءة المعرفة، وتسعى للإفصاح عن طبيعة العلاقة بين النظرية والتجربة ودورهما في بناء المعرفة العلمية. ويمكن أن نتعمق في دراسة وتحليل هذه القولة من خلال إثارة مجموعة من الإشكاليات يمكن توضيحها فيما يلي: ما أساس النظرية العلمية؟ وما طبيعة العلاقة التي يمكن إقامتها بين النظرية والتجربة؟ ما دور العقل في بناء المعرفة العلمية؟ و هل النظرية العلمية هي نتاج خالص للعقل أم أن للتجربة دور في عملية الإنتاج هاته؟
    من الواضح أن القولة تنتصر لأطروحة أساسية مضمونها أن العقل هو مصدر النظرية الفيزيائية، وهو ما يمنح نسق الفيزياء بنيته المتماسكة، أما المعطيات التجريبية فهي مطالبة بأن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وتابعة لها. ومن هنا فإن أساس العلم الفيزيائي المعاصر هو العقل وليس التجربة.
    لإبراز هذا التصور فقد وظف صاحب القولة بنية مفاهيمية متماسكة وذات مرجعية علمية وابستمولوجية، حيث نلاحظ حضورا مركزيا لمفاهيم العقل والتجربة والنظرية، فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين التي تنظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي، أما التجربة أو التجريب العلمي فهو مجموعة من العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها، والتجربة بهذا المعنى هي ما يسمح للعالم التجريبي من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر وبالتالي بناء النظرية العلمية، غير أن صاحب القولة يعطي دورا ثانويا للتجربة وبالمقابل يؤكد على أولوية العقل في بناء النظرية الفيزيائية.
إن اعتماد القولة على هذه المفاهيم وبعض الأساليب والأدوات المنطقية ( هكذا...، أما...، فيجب... ) والتي تفيد الاستنتاج والتأكيد، إنما يهدف من خلالها صاحب القولة تحديد دور كل من العقل والتجربة في بناء النظرية الفيزيائية وتأكيده على أهمية العقل في عملية البناء الرياضي والاستنباطي للعلم.
   وهذا التصور المعروض في القولة يجد امتداده داخل العلم المعاصر، وخاصة داخل الفيزياء النظرية التي يعتبر ألبرت اينشتاين أبرز ممثل لها، حيث يؤكد في هذا الصدد على أن النسق النظري للعلم المعاصر يتكون من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات حرة للعقل البشري، ومن هنا فإن النظرية الفيزيائية تبنى بناءا عقليا خالصا، أما المعطيات التجريبية فهي مطالبة بأن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وتابعة لها. هكذا العقل العلمي الأكسيومي بكل ما يتميز به من تجريد كفيل بإنشاء النظرية العلمية، وما التجربة إلا المرشد في وضع بعض الفرضيات من جهة وفي تطبيقها من جهة أخرى، كما يؤكد اينشتاين على الدور الذي أصبح يلعبه العقل الرياضي في الكشف عن النظريات العلمية ابتداءا ودون أي تجارب سابقة، فالبناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تعتبر مفتاحا لفهم الظواهر الطبيعية، وهذا ما يجعل العقل الرياضي هو المبدأ الخلاق في العلم، كما يجعل من العقلانية العلمية المعاصرة عقلانية مبدعة. 
     نخلص من خلال تحليل هذه القولة وتدعيمها بتصور اينشتاين إلى أن مصدر النظرية العلمية هو العقل الذي يمنح نسق العلم بنيته المتماسكة، وما على التجربة إلا أن تكون مطابقة وتابعة للنظرية. لكن إلى أي حد يمكن القبول بهذا التصور؟ ألا يمكن القول بأن التجربة وحدها هي مصدر النظرية العلمية؟ ثم ألا يمكن القول من جهة أخرى بأن النظرية العلمية هي نتاج لعلاقة جدلية بين العقل والتجربة معا؟
    إذا كانت القولة ومعها اينشتاين يؤكدان على دور ومركزية العقل في بناء النظرية العلمية، فإنه من جهة أخرى نجد العديد من المواقف والتصورات العلمية والفلسفية تتبنى موقفا مناقضا لمضمون القولة، وترى بالمقابل أن التجربة وحدها هي مصدر المعرفة العلمية، وفي هذا السياق نستحضر موقف هانز رايشنباخ، باعتباره أبرز ممثلي الوضعية المنطقية ويؤكد أن التجربة هي مصدر النظرية العلمية، ويوجه في هذا الصدد انتقادا شديدا للمذاهب الفلسفية العقلانية التي ترى بأن العقل وحده هو مصدر المعرفة المتعلقة بالواقع دونما حاجة إلى الملاحظة والتجربة، و بالمقابل يرى أن المعرفة العلمية معقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على المادة التجريبية التي تمدنا بها الملاحظة العلمية، فالملاحظة التجريبية عند رايشنباخ هي المصدر الوحيد للمعرفة التركيبية المتعلقة بالواقع، أما دور العقل فهو تحليل تلك المعرفة. ويمكن أن نستحضر أيضا موقف كلود برنار أحد أبرز منظري المنهج التجريبي الذي يري بأن النظرية العلمية منبعها التجربة، والتجربة العلمية تتأسس على خطوات منهجية تبتدئ بالملاحظة ثم الفرضية والتجريب ثم الإستنتاج الذي يتم تعميمه وتحويله إلى قانون ثم إلى نظرية علمية بعد تحقق مجموعة من الشروط.
    إذا كانت المواقف العقلانية العلمية مع اينشتاين والتجريبية مع رايشنباخ وكلود برنار ونيوتن تؤكد على أولوية العقل على التجربة أو أولوية التجربة على العقل في بناء المعرفة العلمية، فإن المواقف الإبستمولوجية المعاصرة قد قاربت هذه الإشكالية من زاوية التفاعل بين العقل والتجربة في بناء النظرية العلمية، وفي هذا الإطار يؤكد الإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية، وهكذا انتقد باشلار النزعة الإختبارية الساذجة التي اعتقدت أن التجربة وحدها هي مصدر النظرية العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية التي تصورت أن العقل لوحده قادر على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع. وعلى العكس من ذلك اعتبر باشلار أن بناء بناء المعرفة العلمية المعاصرة يتم في إطار حوار متكامل بين العقل والتجربة، هكذا العقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا، بل منفتحا على الواقع العلمي الجديد الذي يتناوله. من هنا ينعت باشلار فلسفته بالعقلانية التطبيقية أو المنفتحة والتي تتم في إطار وعي غير معزول عن الواقع، لكن الواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناءا نظريا وعقليا. 
     نخلص من خلال تحليل ومناقشة هذه القولة بخصوص علاقة النظرية بالتجربة إلى القول بأن هناك تعددا واختلافا في المواقف المقدمة، وهذا الاختلاف يعود إلى اختلاف المرجعيات والمنطلقات التي ينطلق منها كل عالم أو فيلسوف ( تجريبية/ عقلانية/ ابستمولوجية/...) إلا أنه يمكن القول بأن بناء النظرية العلمية يكون عبر التفاعل الجدلي بين العقل والتجربة، فلا وجود لنظرية علمية عقلية خالصة، ولا وجود لتجربة علمية مستقلة ومعزولة عن العقل.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المنهج الجدلي عند هيغل

الثورة الكوبرنيكية في مجال علم الفلك والفيزياء