المنهج الجدلي عند هيغل
المنهج الجدلي عند هيغل
بطبيعة الحال لا نريد هنا الوقوف بإسهاب عند تاريخ وخطوات وقواعد المنهج الجدلي، لأن هذا موضوع قائم بذاته يتطلب منا بحثا خاصا، و إنما سوف نحاول فقط الوقوف عند السمات العامة لهذا المنهج كما يتضح ذلك عند الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، الذي يمكن القول عنه بأنه واضع أسس المنهج الجدلي في الفكر والفلسفة، كما سنحاول إبراز إمكانية الاستفادة من هذا المنهج في الكتابة الإنشائية الفلسفية وهذا ما يهمنا بالضبط. إن مصادر المنهج الجدلي عند هيغل متنوعة، فقد استفاد من كل ما سبقه من الفلسفات والعلوم، ولذلك فهو يعتبر بحق رائد المنهج الجدلي في الفلسفة، فإذا كانت العلوم والرياضة لها منهجها الخاص وهو المنهج التجريبي والمنهج الرياضي فإن هذه المناهج لا تصلح لدراسة الفلسفة، والحق أن الفلسفة إذا أريد لها أن تكون معرفة منظمة فينبغي عليها ألا تستعير منهجها من علم آخر، بل لابد أن ينبع من صميم موضوعها ذاته. والفلسفة تنشد الضرورة بين ظواهر العالم، والضرورة المقصودة هنا هي الضرورة العقلية لا الضرورة الآلية . وبالتالي فقد انتهى هيغل إلى رفض هاذين المنهجين لأنهما يفتقران إلى الضرورة التي ينشدها العقل، كما أنهما يبدأن من فروض ثم يسيران منها مترسمين خطى الفهم خاضعين لقانون الهوية الصوري الذي لا يقبل التناقض.
أما المنهج الفلسفي فهو منهج تحليلي و تأليفي في آن واحد، فهو يمزج بينهما ويدمجهما في ذاته بحيث ترى التحليل والتأليف في كل خطوة من خطوات سيره وهذا المنهج الفلسفي هو المنهج الجدلي، وحسب هيغل فإن العلم الذي يختص بعرض هذا المنهج هو المنطق، فالمنطق حسبه إذن بحث في طبيعة العقل أو دراسة للفكر الخالص، فهو لا يعنى بالأشكال والصور وحدها، بل يدرس هذه الأشكال مع مضمونها ومضمونها هو الفكر، وهذه الدراسة المنطقية للفكر تكشف أن الفكر جدلي الطابع، وأنه يسير على إيقاع ثلاثي من إيجاب إلى سلب إلى تأليف بينهما. يقول هيغل في كتابه مبادئ فلسفة الحق" المنهج هو الفكرة الشاملة التي تنمو بفضل نشاطها الخالص ولقد عرضته في المنطق" . والمبدأ المحرك لهذا النمو هو الجدل، فالمنهج هو الفكر الخالص الذي يتحرك بفضل ما يكمن في جوفه من جدل ذلك لان ما يدفع الفكرة الخالصة إلى السير قدما هو السلب الذي تحمله الفكرة الخالصة في جوفها، وذلك ما يكون الحركة الجدلية الأصيلة.
وبصفة عامة يمكن القول بأن العقل يمر بمراحل ثلاث هي على التوالي:
1_ مرحلة الوعي المباشر وفيها نجد ان الموضوع يبدو مستقلا عن الذات التي تدركه وفي حياد معها.
22_ مرحلة الوعي الذاتي: حيث نجد أن الموضوع قد اتضحت حقيقته على أنها الذات وأن الاستقلال الأول قد تحطم وانهار.
3_ مرحلة العقل: وفيها نجد أن الموضوع متحد مع الذات ومختلف عنها في وقت واحد.
وهذه المراحل الثلاث تمثل سمة رئيسية تطبع بطابعها المنهج الجدلي في جميع خطواته، فأول خطوة يبدأ بها المنهج الجدلي هي دائما خطوة مباشرة، وفيها يبدو الموضوع –أي موضوع نبدأ به- كما لو كان مستقلا عن غيره ولا يرتبط بشيء سواه. إلا أن هذا الاستقلال ظاهري فقط، إذ سرعان ما ينقلب الموضوع من تلقاء نفسه إلى ضده، ويصبح هذا الضد نفسه الذي كان يبدو أول الأمر مستقلا عنه، فإذا ما بدّأنا مثلا بمرحلة الوعي المباشر، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الوعي في إدراك العالم الخارجي، فإننا نجد أن العالم الخارجي في هذه المرحلة يكون مستقلا عن الوعي –فالموضوع موجود وهو الحقيقي، وهو الماهية، إنه موجود لا يتأثر قط بأن يعرف أو لا يعرف – فهو مستقل تماما عن الوعي الذي يدركه وعن الطريقة التي يدرك بها، غبر أن المنهج الجدلي سرعان ما يبين لنا أن هذا الاستقلال يتحطم وينهار بحيث ننتهي إلى أن العالم الخارجي يلتقي مع الوعي على صعيد واحد وهكذا نصل إلى مرحلة الوعي الذاتي وهي نقيض المرحلة الأولى، ثم نتبين أخيرا أنه إذا كان العالم الخارجي يتحد مع الوعي في هوية واحدة، فإنه يختلف عنه في نفس الوقت.
لقد طبق هيغل هذا المنهج الجدلي في كل الميادين والمجالات المختلفة وأهمها مجال التاريخ، حيث يضفي أهمية كبيرة على عنصر الصراع بين القوى المتعارضة. كما طبقه أيضا في مجال السياسة والمجال الثقافي . وفي هذه الحالة الأخيرة يرتد الجدل إلى تبادل السؤال والجواب في محاورات أفلاطون. وهذه بالضبط هي الطريقة التي يعمل بها الذهن حين تعترضه مشكلة، إذ يعرض موقف ما وقد تثار عدة اعتراضات وخلال المناقشة أما أن يتم التوصل إلى تسوية عن طريق الأخذ برأي أدق في الموضوع وأما أن يتم التخلي عن القضية الأصلية، إذا بدا بعد إمعان الفكر أن من الضروري قبول أحد الاعتراضات، وفي هذه الحالة يمكن التوصل إلى حل توفيقي سواء أكانت القضايا التي توضع كل منها في مواجهة الأخرى متناقضة أم متضادة.
نخلص من هذا إلى أن الديالكتيك الهيغيلي يعنى بمنطق الصراع لأن أي مصطلح أو مفهوم يدخل في صراع مع ضده، فينكره ويواجهه. ويقوم الجدل الهيغيلي على ثلاثية هي :الأطروحة أو القضية + نقيض الأطروحة = المركب.
ولقد تم اعتماد الديالكتيك الهيغيلي في كثير من الأحيان كقاعدة أو كنموذج للكتابة الفلسفية، حيث يتم الانتقال من شرح الفكرة الرئيسية في النص أو القول، ثم يتم الانتقال إلى مناقشة هذه الفكرة عبر عرض لآراء مخالفة وقد تكون أحيانا تتوافق مع آراء الفيلسوف. بعدها وفي السؤال الأخير يتم الاستنتاج أو التركيب، فالمنهجية الفلسفية في الكتابة الإنشائية تستند إلى الأسس الموضوعية للجدل الهيغيلي.
تعليقات
إرسال تعليق