الثورة الكوبرنيكية في مجال علم الفلك والفيزياء
إن نشوء العلم الحديث في أوربا الغربية لم يكن عن تخطيط مسبق أو عن برنامج محدد الخطوات والأهداف، بل جاء كتناول للسؤال الكسمولوجي القديم الذي يضع علامة استفهام حول ما إذا كانت الأرض - كما هو معتقد- ثابتة في مركز الكون، أم أنها تدور حول مركز آخر. وقد بدا واضحا - منذ البداية- أن كلا من الجوابين الفلكيين المحتملين حول هذا السؤال لابد وأن يحمل في طياته، بل وأن يصاحبه، الجواب الفيزيائي عن حركة الأجسام الموجودة فوق سطح الأرض. إذ أن حركة الأجسام فوق أرض ساكنة تفرز فيزياء معينة، لكن حركتها فوق أرض متحركة بدورها تشكل فيزياء أخرى.
في سنة 15433 سيتم نشر كتاب "حول دوران الأفلاك السماوية" للعالم البولوني المغمور نيقولاوس كوبرنيكوس (1473- 1543)، والذي سيضع حدا للعمر المديد لنظرة الإنسان إلى الكون، حيث أعلن فيه عن نظرية فلكية جديدة مغايرة لما كان معتقدا في السابق ومفادها أن الشمس هي التي تحتل مركز الكون وأن كل الكواكب بما فيها الأرض تدور حولها. وقد كان ذلك جرأة كبيرة على إزاحة الأرض من عرشها الذي كانت تتربعه بثبات وسكون في مركز الكون منذ ما يقرب من عشرين قرنا، وبدل ذلك جعل الشمس هي المحتلة لهذا المركز. أما الأرض فلقد ألقى بها ـ شأنها شأن الكواكب الأخرى ـ في مدار سماوي مانحا إياها الحركتين اللازمتين لتفسير الظواهر وفهمها : حركة سنوية حول الشمس ومدتها 365 يوما وينتج عنها تعاقب الفصول الأربعة ، وحركة يومية حول محورها ومدتها 24 ساعة وينتج عنها تعاقب الليل والنهار.
ولهذا الطرح الفلكي الجديد علاقة بكل من الفيزياء والدين، فقد ترتب عنه نتائج فكرية عقدية ونتائج علمية فيزيائية أثارت جدالات ونقاشات ساخنة في الأوساط المعنية.
فلقد كانت النظرية الفلكية القديمة التي تقول بثبات الأرض في مركز الكون، والتي جعلها بطليموس أساسا لبنائه الفلكي الضخم بعدما جعلها أرسطو حجر الزاوية في فلسفته الطبيعية، كانت تتفق مع عقيدة الكنيسة الكاثوليكية التي جعلت من فلسفة أرسطو الطبيعية هاته فيزيائها الرسمية، وتتوافق مع الظواهر والمشاهدات العيانية.
أما من الناحية الفيزيائية فإن نظرية كوبرنيك الفلكية تطرح مشاكل ومفارقات هي التي كانت تقف حجرة عثرة أمام القدامى لتبنيهم النظرية القائلة بحركة الأرض. كمثال على ذلك يقول أرسطو أن الحجر تقذف به إلى الأعلى فيعود إلى نفس المكان الذي قذف منه، فلو كانت الأرض متحركة لتأثر الحجر بحركتها ولسقط في مكان آخر.
ولم يكن كوبرنيك نفسه يتوفرعلى نظرية فيزيائية تدعم نظريته الفلكية الجديدة وتفسر مختلف الظواهر والمفارقات الناتجة عنها. ولهذا السبب أقام فرضيته الكسمولوجية على قاعدة الفلسفة الطبيعية التقليدية، واستعار من بطليموس وسائله ومبادئه، مثل أفلاك التدوير ونقط التعديل لوصف مدارات الكواكب وحركاتها ومواقعها.
لقد كان على نظرية كوبرنيك الفلكية هاته أن تتخذ مظهرين ثوريين أساسيين : ثورة في ميدان علم الفلك وقد حققها كوبرنيك نفسه، وثورة في ميدان الفيزياء لم يستطع كوبرنيك تحقيقها وظلت بمثابة العقبة التي تحول دون تقدم النظرية الفلكية الجديدة. وفي بداية القرن السابع عشر تولى كل من الفيزيائي والفلكي الإيطالي غاليليوغاليلي( 1564 ـ 1642) وعالم الفلك الأماني جوهانس كبلر ( 1571ـ 1630) الدفاع عن نظام مركزية الشمس.
دروس في تاريخ وفلسفة العلوم: 2ـ أعمال غاليليو غاليلي
تتمثل أعمال غاليليو وإنجازاته في مجالين أساسيين هما: علم الفلك والفيزياء. وقد شكلت هذه الأعمال الدفعة القوية التي كانت تنتظرها نظرية مركزية الشمس لتصبح حقيقة واقعية أو، على الأقل، لتصبح نظرية مطروحة للنقاش في الساحة العلمية.
وقد بدأ غاليليو مناصرة هذه النظرية منذ صيف 1609 حيث صنع المقراب اليدوي وصوبه نحو السماء، فكان ذلك حدثا علميا بكل المقاييس. إذ أنه لأول مرة يتم فيها استخدام المنظار المقرب لأغراض فلكية ـ علمية- بحثة، وهذا وحده كاف لأن يشكل منعطفا حاسما في تاريخ العلم. أما نتيجة هذا الاستعمال للمنظار المقرب في المراقبة الفلكية فكانت سلسلة من الاكتشافات قدمت لغاليليو فوق طبق من ذهب، ومكنته من أن يربك السماء الأرسطية النقية والخالدة، وأن يجعلها سماء خشنة متقلبة تعرف الكون والفساد وتحتوي على مراكز متعددة للدوران.
فبالإضافة إلى رؤيته لبقع الشمس يقول غاليليو نفسه: " شاهدت عددا لا يحصى من النجوم ، لم يرها أحد من قبل، وتفوق عدد النجوم المعروفة سابقا بأكثر من عشرة أضعاف… بيد أن الأمر الذي سيثير دهشة أعظم بكثير، والذي دفعني بشكل خاص لأن ألفت انتباه جميع الفلكيين والفلاسفة، هو أني اكتشفت أربعة كواكب جديدة لم تكن معروفة ولم يلاحظها أي من الفلكيين من قبل… وأن أجمل مشهد وأبدعه هو أن ترى سطح القمر. فهو بكل تأكيد ليس سطحا ناعما أو مصقولا، لكنه سطح وعر وغير مستو، ومثل سطح الأرض نفسها، ملء في كل مكان بالنتوءات والهوات العميقة والتعرجات".
نشر غاليليو ما رآه في مارس 1610 في كتيب "المرسول السماوي"، حيث مثلت هذه الاكتشافات ضربة قوية لمبادئ ومسلمات الفلسفة الطبيعية التقليدية التي كانت تقسم الكون برمته إلى عالمين: العالم السفلي، عالم ما تحت فلك القمر، وهو عالم الكون والفساد المتكون من العناصر الأربعة؛ والعالم العلوي، عالم ما فوق فلك القمر وهو عالم الثبات والخلود واللاتغير المتكون من الأثير، العنصر السامي الشريف، حيث سطح الكواكب المكونة منه سطح أملس لا عثرة فيه.
فلم يعد هناك تقسيم إلى عالم الأرض المتغير وعالم السماء الثابت، بل الكون برمته، بما فيه السماء، في حالة تغير. فسطح القمر يتكون من عثرات متعددة وتضاريس تشبه تلك التي على الأرض، كما أن الأرض ليست وحدها مركزا للدوران فالمشتري أيضا تدور حوله أربعة أقمار، أما الكون والفساد فلا يقعان على الأرض فقط بل أيضا حتى الشمس الموجودة في السماء تعرف انفعالات واختلاطات وانفجارت باستمرار للمواد السائلة المكونة لها.
ومنذ تاريخ نشر هذه الاكتشافات انبرى غاليليو ـ بشكل رسمي ـ للدفاع عن نظام مركزية الشمس، وحاول أن يرد عنه مختلف الاعتراضات وأن يعزز موقفه بدلائل فيزيائية وجدلية متعددة ومتنوعة. ورغم تلقيه في سنة 1616 قرار شبه رسمي من الكنيسة الكاثوليكية للتوقف عن الدفاع عن نظرية كوبرنيك، إلا أن البرنامج الكسمولوجي الغاليلي سيعرف أوجه سنة 1632 عندما نشر كتاب "محاورة حول النظامين الرئيسيين للكون: النظام البطليموسي والنظام الكوبرنيكي".
يصور هذا الكتاب ما تخيله غاليليو من وقائع مؤتمر علمي يحضره ثلاثة أشخاص على مدى أربعة أيام متتالية، يناقشون فيه أمور العلم الذي يهتمون به، ويتقارعون بعضهم البعض بالحجج والبراهين من خلاصة فكرهم وحصيلة خبراتهم. وقد أعطى غاليليو لهؤلاء الأشخاص أسماء: ساغريدو، سالفياتي، سمبليتشيو. وتظهر وقائع هذا المؤتمر العلمي الفريد في أربعة أبواب بأسماء "اليوم الأول" و "اليوم الثاني و"اليوم الثالث" و"اليوم الرابع".
وفي الواقع، إن ساغريدو وسالفياتي ليسا شخصيتين رمزيتين فقط، بل هما شخصيتان حقيقيتان: ساغريدو Sagredo (1571 – 1620 ) من مدينة البندقية، وسالفياتي Salviati (1582-1614) من مدينة فلورنسا، وكلاهما صديقان لغاليليو أراد أن يخلد ذكراهما فاستعار اسميهما. أما شخصية سمبليتشيو Simplicio فهي شخصية رمزية، ويمكن أن يكون اختيار غاليليو لهذا الاسم مستوحى من إسم سمبليسيوس Simplicius وهو أحد شراح ومعلقي كتب أرسطو في القرن السادس الميلادي، وكان من الشراح النصيين الظاهريين لفلسفة أرسطو.
أما من ناحية الدلالة فسالفياتي يمثل الشخص المتكلم باسم غاليليو، فهو الذي يقدم العلم الحديث ويطرح الإشكاليات للمناقشة، ويقوم بالإجابة عليها في نهاية المطاف. في حين يمثل ساغريدو شخصية الرجل المثقف المتفتح والمتحرر من الآراء المسبقة السكولائية، والقادر على فهم واستيعاب وتقبل العلم الجديد، حيث يطرح أسئلة ذكية ويناصرعلى العموم موقف سالفياتي. أما سمبليتشيو فهو الحامل للتقليد المدرسي الذي تهيمن عليه سلطة أرسطو، ويمكن فهم دلالة اسمه بأنه ذو الذهن البسيط الساذج العاجز عن رؤية أبسط الحقائق.
في هذا المؤلف الضخم عرض غاليليو مختلف الدلائل والحجج التي تدعم النظام الفلكي الجديد، وحاول باستماتة أن يقنع قرائه بوجاهة هذا الأخير وصلاحيته من الناحية العلمية والفلسفية. وقد كان اهتمام غاليليو منصبا أكثر على الناحية الفيزيائية للنظام الكوبرنيكي، حيث يشكل اليوم الثاني المخصص لذلك 36% من وقائع المؤتمر العلمي، وهو أطول أيام الحوار. وقد فصل فيه غاليليو الحديث عن التوافق بين ظواهر الحركة اليومية فوق الأرض مع دورانها المحوري مع نقد تفصيلي لعلم الحركة الأرسطي.
تناول غاليليو في هذا اليوم دراسة بعض الموضوعات العلمية التي كانت سائدة في ذلك الوقت مثل دراسة موضع سقوط الحجر من قمة شراع السفينة في حالة حركتها أو سكونها، ورأي الفلاسفة الذي يؤكد على سكون الأرض من خلال الفرق بين حركة القذائف المتجهة نحو الشرق والمتجهة نحو الغرب .. وقد كون غاليليو تصورا نسبيا للحركة، وهو التصور الذي ستأخذ به الفيزياء الحديثة منذ ذلك الوقت. فالحركة عند غاليليو هي "حركة وتؤثر كحركة بقدر ما هي في علاقة وتناسب مع أشياء لا متحركة"، فهي إذن ليست لا كونا وفسادا ولا تغيرا في البنية والتكوين الفيزيائي للجسم …، إنها تغير في العلاقات والنسب بين الأشياء، وهي ليست سوى هذا الشيء.
إن الحركة حسب غاليليو حالة طبيعية للأجسام شأنها في ذلك شأن السكون، فالحركة والسكون شيئان متعادلان ومتكافئان ويحملان نفس القيمة الأنطولوجية. ومعنى ذلك أن الحركة لا تخص أبدا جسما واحدا معزولا كأن تكون ـ كما يرى أرسطو ـ علامة على الكون والفساد أو الاستحالة أو الزيادة والنقصان، بل الحركة - والسكون ـ لا يمكن أن يتصورا إلا كتغير في العلاقات بين جسمين على الأقل. فعندما يتحرك الجسم أو يظل ساكنا، فليس بالنسبة إلى نفسه، وإنما بالنسبة لجسم آخر أو أجسام أخرى، يتخذها كإطار مرجعي، وإضافة إلى ذلك فالحركة والسكون يعرفان الواحد بالنسبة للآخر والواحد بالاستناد إلى الآخر. وكما يقول غاليليو "إن السكون هو حركة متشاركة"، فالأجسام التي تتشارك نفس الحركة لا يتغير شيء فيما بينها، بل على العكس إن حركة جسم ما لا تتحقق لا بالنسبة لجسم آخر حرم منها.
إن التعريف الغاليلي للسكون يجعل منه مقولة معادلة للحركة، إنه حركة أصبحت صفرا لأنها متشاركة. لهذا فالسكون ليس شيئا مطلقا؛ ونفس الشيء بالنسبة للحركة، إنهما حالتان نسبيتان تؤشران على العلاقة بين الأجسام ولا تظهران أي تضاد بينهما.
على أساس هذا التصور النسبي للحركة شحد غاليليو كل ما من شأنه أن يدعم نظرية كوبرنيك ويفسر القول بحركة الأرض ويرجح بالتالي كفة نظرية مركزية الشمس على نظرية مركزية الأرض. لكن مشروع غاليليو هذا وحماسه العلمي سيعرف عثرة مؤقتة تمثلت في محاكمته سنة 1633 من طرف الكنيسة الكاثوليكية التي رأت أنه صرح بأفكار تخالف ما جاء في الكتاب المقدس؛ فمنع غاليليو من نشر أعماله في روما، وظل منع الكنيسة لتدريس النظرية الكوبرنيكية ساري المفعول إلى حدود سنة 1822 حيث تم قياس أول زاوية لاختلاف المنظر. (Parallaxe)
إلا أن هذا الحدث لم يشكل إلا عائقا مؤقتا في وجه العلم الناشئ؛ فقد نشر غاليليو سنة 1638، لكن بهولاندا هذه المرة، كتابه الشهير"خطابات وبراهين رياضية"، حيث أعلن عن قيام علمين جديدين هما مقاومة الأجسام والميكانيكا.
وهنا أنتقل للحديث عن القسم الثاني من إسهام غاليليو في قيام العلم الحديث، ألا وهو المساهمة الفيزيائية المعززة بالصياغة الرياضية والقائمة على أساس تطبيقها في بحث الظواهر الطبيعية.
إن أبحاث غاليليو الفيزيائية، في حقيقة الأمر، سبقت أبحاثه الفلكية، ولئن كان كتاب المحاورة المخصص لمعالجة المسألة الفلكية بالأساس أسبق في النشر من كتاب الخطابات والبراهين الرياضية الذي يعتبر كتابا في الفيزياء بشكل مباشر، إلا أن معظم مادة هذا الأخير كانت متوفرة لدى غاليليو في سنة 1610، وهي سنة استقالته من وظيفته في جامعة بادوفا التي ظل فيها مدة 18 سنة اكتشف خلالها معظم قوانينه حول الحركة وسقوط الأجسام. لهذا لا غرابة أن نرى غاليليو في كتاب المحاورة يضرب لنا في غير موضع موعدا لاجتماع خاص يخصص لمعالجة التفاصيل المتعلقة بحركة الأجسام التي تمت الإشارة إليها في الحوار باختصار وإيجاز وفي شكل استطراد.
لهذا أيضا لا حرج أن نعتبر كتاب الخطابات كجزء ثاني لكتاب المحاورة. فهو أيضا عبارة عن مؤتمر علمي ينعقد خلال أربعة أيام وتحضره نفس شخصيات المحاورة لتناقش بإسهاب وتفصيل ما ورد عابرا في المؤتمر العلمي السابق. إلا أنه قبل البدء في الحوار يتدخل سالفياتي، صاحب المبادرة في الحديث، ليعرض كأرضية للنقاش ما كتبه صاحبهم الأكاديمي. ويقصد بذلك غاليليو وما كتبه حول الحركة في فترة تدريسه للرياضيات في جامعة بادوفا.
تكمن أهمية دراسات غاليليو الفيزيائية في كونها مبنية على التجربة بدل النظر العقلي، كما تكمن في كونها ستتخذ من الرياضيات سندها الرسمي ووسيلتها الأساسية في التعبير. فقد كان كل جهد غاليليو الشاب في مدينة بيزا منصبا نحو هدف محدد ألا وهو ترييض الفيزياء؛ إذ لا أحد قبله عمل على مواصلة تحقيق هذا الهدف بنفس جهده ومثابرته. وأكثر من ذلك سيؤكد غاليليو ـ فيما بعد ـ وبقوة على ضرورة تطبيق الرياضيات في بحث ظواهر الطبيعة. ويتجلى هذا ليس فقط من خلال أعماله الفيزيائية التي عبر عنها تعبيرا رياضيا، بل أيضا من إدراكه الواعي والمبكر لأهمية الرياضيات باعتبارها المفتاح الذي يحل الغاز الطبيعة؛ لذلك حرص حرصا قويا على تطبيقها في مختلف أبحاثه الفيزيائية وبالخصوص في دراسة الحركة. وكانت نتيجة ذلك أن وضع الأساس الصلب للفيزياء الرياضية في القرن السابع عشر، والذي يعتبر النموذج الأول والناجح في ترييض الفيزياء، حيث سيقتفيه جل علماء العصر الحديث اللاحقين لغاليليو.
وقد أعلن غاليليو عن برنامج الترييض سنة 1623 في عبارة مجازية تقول:"إن الفلسفة ( يقصد العلم الطبيعي) مكتوبة في هذا الكتاب الفسيح المفتوح دوما أمام أعيننا، أعني العالم . لكن لا يمكن فهمه إن لم نثابر أولا في فهم اللغة ومعرفة الأشكال التي كتب بها، إنه مكتوب بلغة رياضية، وحروفه هي المثلثات والدوائر والأشكال الهندسية الأخرى التي من غير واسطتها يستحيل فهم أي كلمة فيه، وبدونها لا نكون إلا متخبطين خبط عشواء".
درس العالم الإيطالي ظاهرة سقوط الأجسام دراسة تجريبية وحدد العلاقات القائمة بين أجزائها وعلاقاتها بالظواهر الأخرى فتمكن من صياغتها صياغة رياضية مضبوطة. ولقد بين أثر الوسط الذي تسقط فيه الأجسام على سقوطها، وبين أنه كلما قل أثر الوسط قل الفرق بين زمن سقوط الأجسام المختلفة، حتى أنها تسقط جميعها في الفراغ بنفس السرعة وفي زمن واحد. وأوضح أن عملية السقوط هي حركة متسارعة تزداد فيها السرعة بمرور الزمن. كما تمكن من إيجاد النسبة بين مدة السقوط والمسافة التي يقطعها الجسم الساقط، وهي أن المسافة تتناسب مع مربع الأزمنة التي يستغرقها الجسم أثناء نزوله من الأعلى إلى الأسفل.
ومن تجاربه العلمية حدد عالمنا مجموعة من القوانين والمبرهنات الرياضية المتعلقة بسقوط الأجسام والحركة المنتظمة والمتسارعة وبحركة البندول والمقذوفات. وبذلك تكون الفيزياء الحديثة قد دشنت مع غاليليو أسلوبا جديدا في التعبير وفي التعامل مع مختلف القضايا بالصياغة الرياضية والانطلاق من مجموعة صغيرة من الأوليات (Axiomes) التي تعتبر قضايا بديهية والتي تتمتع بعمومية وشمولية ليستنتج منها عددا هائلا من القضايا، وكل ذلك على هيئة صرح استنباطي تتناسل فيه القضايا الرياضية الواحدة من الأخرى دونما حاجة للعودة إلى التجربة الواقعية. كما توصل عالمنا إلى قانون العطالة أو المبدأ الأساسي لحفظ الحركة المنتظمة والمستقيمة، والذي مفاده أن جسما متروكا لحاله ولا يخضع لتأثير أية قوة، فإما أن يستمر في حالة سكون أو أن يستمر في حالة حركة بسرعة منتظمة وحسب مسار مستقيم. فقد يلاحظ أن جسما كرويا وصلبا يتدحرج على مستوى موازيا لسطح الأفق يمكن أن يستمر في حركته إلى ما لا نهاية وبسرعة ثابتة إذا رفعت كل العوائق التي يمكن أن تعثر هذه الحركة. وسيضع نيوتن، بعد غاليليو، هذه الفكرة الحاسمة بالنسبة للميكانيكا في مبدأ العطالة الذي نجده عنده على رأس قوانين الحركة.
لقد أرسى غاليليو علم الحركة الحديث، حيث أقامه على أساس التطبيق الرياضي وعلى أساس البحث عن العلاقات التي تربط بين الظواهر، أي البحث عن القوانين. لنقرأ له هذا النص من كتابة "خطابات وبراهين رياضية" وهو يتحدث عن مشروعه هذا: "غايتي أن أضع علما بالغا في الجدة، يعالج موضوعا بالغا في القدم. وقد لا يكون في الطبيعة ما هو أقدم من الحركة، التي وضع الفلاسفة فيها كتبا ليست قليلة ولا صغيرة. ومع ذلك فقد اكتشفت بواسطة التجربة خصائص لها تجدر معرفتها، لم يسبق لأحد أن لاحظها أو أقام الدليل عليها. لقد وردت بعض الملاحظات السطحية كالقول مثلا بأن الحركة الحرة لجسم ثقيل ساقط يزداد تسارعها باستمرار، ولكن هذه الملاحظات لم تستمر إلى المدى الدقيق الذي يتم به هذا التسارع. والسبب أنه لم يصل إلى علمي أن واحدا من الباحثين أشار إلى أن نسب المسافات التي يقطعها جسم ساقط في فترات متساوية من الزمن لبعضها البعض ـ ابتداءا من نقطة سقوطه ـ هي كنسب الأعداد الفردية التي تبتدئ بالوحدة العددية. لقد لوحظ أن القذائف والقنابل تتبع خطأ منحنيا، ومع ذلك لم يشر أحد إلى أن هذا الخط المنحني هو مخروطي الشكل. لكنني نجحت في إقامة الدليل على هذه الحقيقة وحقائق أخرى كثيرة ومهمة ".
لقد كان للأبحاث الفيزيائية التي قام بها غاليليو حول سقوط الأجسام آثار هامة على مسيرة العلم الناشئ وبلورة المميزات التي يتصف بها التفكير العلمي، والتي كان للعالم الإيطالي الشرف في تطبيقها وتحديدها بوضوح ووعي مما مكنه من التحرر من سيطرة المفاهيم وطرق البحث القديمة وتدشين طريقة جديدة في التفكير تقوم على مسائلة الطبيعة واستنطاق عملياتها الرياضية ووضع الثقة في التجربة عوض الرجوع إلى مصنفات أبلاها الدهر. ولقد حدس غاليليو بالتقدم الذي سيعرفه العلم الذي وضع لمساته الأولى قائلا :" إنني فتحت أمام هذا العلم الواسع ـ وليس عملي فيه سوى مجرد بداية - طرق ومحاولات كثيرة سيستفيد منها علماء قوى مني عقلا، وسيذهبون فيها إلى أبعد نهايتها وأعمق نواحيها . والنظريات التي سأناقشها بإيجاز إذا ما تناولها باحثون آخرون فستؤدي باستمرار إلى معرفة جديدة مدهشة".
وهذا ما سيتحقق فعل بعد غاليليو، ذلك أن برنامج الترييض الذي دعا إليه سيؤثر تأثيرا بليغا في توجيه الفيزياء الحديثة، حيث أن كل الفيزيائيين اللاحقين سيتبنون النموذج الرياضي والتحليل الذي دشنه العالم الإيطالي، وستجد دعوته تلك أذانا صاغية في أوساط علماء النصف الثاني من القرن السابع عشر. فعلاوة على الهندسة التحليلية الديكارتية التي شكلت دفعة قوية لنموذج الترييض الغاليلي، كانت أبحاث العالم الهولندي كريستيان هويغنز (1629-1695) صورة طبق الأصل لأعمال غاليليو. وفي سنة 1687 وضع الفيزيائي الإنجليزي الشهير إيزاك نيوتن (1642-1727)اللبنة الأساسية في صرح العلم الحديث، وذلك بتقعيده للفيزياء وبنائها على شكل نسقي محكم ومتكامل يجد تبريره في مجموعة صغيرة من القوانين التي تتمتع بعمومية وشمولية وبساطة الحقائق الرياضية ويسير حسب قواعد وبراهين محددة ضمتها دفتي كتابه الخالد "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية".
يعتبر ازاك نيوتن العالم الفيزيائي الإنجليزي الشهير من أهم الشخصيات العلمية خلال تاريخ الفكر العلمي، والمتوج للمسيرة العلمية خلال القرن 17 عن طريق بناء الفيزياء على شكل نسقي، وجمع شتات القوانين والمفاهيم والتصورات والأسس التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية في بناء محكم ومتكامل يقوم على أسس واضحة ومجموعة صغيرة من القوانين التي تتمتع بعمومية وشمولية وبساطة الحقائق الرياضية، ويسير حسب قواعد وبراهين محددة.
تمثلت اكتشافات نيوتن وأعماله العلمية في ثلاث ميادين مهمة ففي ميدان البصريات طور المقراب الفلكي والعدسات التي يعتمد عليها، كما حلل الضوء الأبيض إلى ألوان طيفية وفسر عددا من ظواهر الضوء كالانعكاس والانكسار... وبالتالي توج أبحاثه في هذا الميدان بصياغة النظرية الذرية في تفسير طبيعة الضوء.
وفي ميدان الرياضيات وضع مبادئ حساب التكامل والتفاضل كوسيلة رياضية هامة كان علم الفيزياء، وخاصة دراسة الحركة، في أمس الحاجة إليها.
أما في ميدان الميكانيكا فقد نشر نيوتن سنة1687 كتابه الخالد"المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، الذي يعتبر من أعظم الكتب التي أنتجها الفكر العلمي، حيث يتضمن بين دفتيه منظومة فيزيائية متكاملة لا نظير لها في ماضي المعرفة العلمية. وفي هذا الكتاب بسط نيوتن نسقه الميكانيكي الذي أقامه على قوانينه الثلاثة في الحركة وتوجه باكتشاف قانون الجاذبية.
فبعدما تبن صلاح النظرية الكوبرنيكية، عمل غاليليو على مخاطبة الناس وإقناعهم بها من جهة، وأنشأ نظرية فيزيائية جديدة تسمح باحتضانها وتبريرها من جهة ثانية؛ وبعدما حسمت قوانين كبلر النقاش لصالح هذه النظرية الفلكية الجديدة، حصل نوع من التطور للمشكلات العلمية ونوع من التلاكم للنتائج، تطلب قفزة وتتويجا لهذه المسيرة العلمية. وهذا ما سيقوم به نيوتن، حيث سيقعد الفيزياء في إطار منظومة استنباطية منتهجا منهجا أكسيوميا (فرضيا-استنباطيا)، عمد فيه قبل كل شيء إلى تحديد المفاهيم التي يستعملها.
لقد درس غاليليو الحركة كمقاربة وصفية سينماطيقية اعتمد فيها على استعمال الزمان والمكان لوصف سرعة الحركة.أما دراسة نيوتن للحركة فلا تقتصر على المقاربة السينماطيقية فحسب، بل تقوم على المعالجة الديناميكية التي تبحث بالأساس عن الأسباب المحدثة للحركة. فإذا كانت السينماطيقا تجيب عن السؤال كيف تحدث الحركة؟ فإن الديناميكا تجيب عن السؤال لماذا تحدث الحركة؟
تقوم الميكانيكا النيوتونية على القوانين الثلاثة التالية
ـ قانون العطالة (La Loi d'inertiee) كل جسم يستمر في حالة سكون أو حركة منتظمة ومستقيمة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية. بتعبير آخر تحتفظ كل الأجسام بحالة السكون أو تسير بحركة على خط مستقيم وبسرعة ثابتة إلا إذا أجبرت على تغيير تلك الحالة.
وتترتب عن هذا القانون مجموعة من الخلاصات الإبستيمولوجية والفلسفية، حيث يؤشر على ثلاث معطيات تاريخية هامة تبين الجدة التي مثلتها صياغة نيوتن لهذا القانون فهو، من جهة، يكافئ ويساوي بين الحركة والسكون كحالتين طبيعيتين بالنسبة للأجسام؛ ثم، من جهة أخرى، يعرف الحركة المنتظمة والمستقيمة كحالة طبيعية يمكنها أن تدوم إلى ما لا نهاية وبدون محرك؛ ومن جهة ثالثة، يمثل هذا القانون تعريفا غير مباشر للقوة أو تقييما لها، فهي التأثير الذي يحدث تغييرا في حالة الجسم ويترجم ما يحدث في هذه الحالة (إما خروج عن السكون أو تغيير في السرعة أو في الاتجاه أو في الاثنين معا).
لقد وضع هذا القانون حدا نهائيا للعمر المديد لمفهوم الحركة الأرسطي إذ يترك جانبا التغيرات الأخرى التي نص عليها تعريف أرسطو القائل بأن"الحركة هي فعل ما هو بالقوة من حيث هو بالقوة"، والذي يعتبر السكون هو وحدة الحالة الطبيعية للأجسام لأنه يمكن أن يدوم أما الحركة فهي، حسبه، مجرد انتقال من سكون إلى سكون، أي هي سيرورة مؤقتة وعارضة تتوقف بمجرد أن تخرج ما هو كائن ومضمر في الأجسام من القوة إلى الفعل.
إن قانون العطالة هذا مجرد فكرة تصف تصرف الأجسام في الحالة العامة، رغم أنه لا وجود لحركة عطالية في الواقع، فالحركة التي ألفناها نحن ونشاهدها باستمرار كلها استثناءات تعج بالتأثيرات، أما الحركة العطالية فهي حركة مستحيلة، لكنها نأخذها كمبدأ أول للحركة لأنه إذا تصورنا مكانا ما في الكون وليس فيه أية قوة يمكن أن تؤثر على الأجسام فإن كل جسم وضع في هذا المكان سيتصرف وفقا لمبدأ العطالة، أي إذا كان في حالة سكون سيستمر في السكون وإذا كان في حالة حركة عطالية سيستمر في هذه الحركة.
يقدم قانون العطالة إذن بصفة ضمنية المفهوم الجديد للحركة الذي ستعمل به الفيزياء الحديثة.
ـ القانون الأساسي للديناميكا أو قانون التناسب بين القوة والتسارع ( Relation fondamentale de la dynamique) إذا تغيرت حركة الجسم فإن هذا التغير يتناسب طرديا مع القوة الخارجية وعكسيا مع كتلة الجسم ويتم هذا التغير في اتجاه تلك القوة.
يكمل هذا القانون المعطيات الواردة عن القوة في الشق الثاني من قانون العطالة ويعطيها هنا تعريفا أدق، فالقوة هي التي يتمظهر أثرها في تغيير حالة الجسم، فهي تؤثر عليه بطريقة محددة تتمثل في الزيادة في سرعته أو تخفيضها أو تحريفه عن مساره الأصلي، وتساوي هذه القوة حاصل ضرب الكتلة في التسارع ويعبر عنها بالصيغة الجبرية f=my حيثf تشير إلى القوة و m على الكتلة وy إلى التسارع، ومن هنا نستنتج أن تسارع جسما ما يساوي القوة المسلطة عليه مقسومة على كتلته.
وعندما يحصل التغير الذي أحدثته هذه القوة فإنه يتم في الاتجاه الذي كانت تسير حسبه.
ـ قانون الفعل ورد الفعل (Loi de l’action et de la réaction) كل فعل يقابله رد فعل مساو له ومتجه في عكس اتجاه الفعل. حجر الزاوية في هذا القانون هو المقاومة التي تبذلها الكتلة للقوة، حيث أن رد الفعل يساوي الفعل في المقدار والشدة ويعاكسه في الاتجاه، وهذا ما يمكن ملاحظته في عمليات التصادم، فعندما يسلط جسم ما قوة على جسم آخر فإن هذا الجسم الثاني يقاوم هذه القوة بتسليطه على الجسم الأول قوة مساوية للقوة الأولى لكن في اتجاه معاكس.
هذه هي المعالجة النيوتونية للميكانيكا، واعتمادا عليها وعلى قوانين كبلر من جهة وعلى نتائج الملاحظات الفلكية من جهة ثانية صاغ نيوتن قانونه الشهير في الجاذبية الكونية كما يلي "كل جسمين يتجاذبان فيما بينهما بقوة تتناسب طردا مع مضروب الكتلتين وعكسا مع مربع المسافة بين الجسمين". وبعبارة أخرى كل جسم في الكون يجذب جسما آخر بقوة تتناسب بصفة مباشرة مع كتلتيهما وبصفة عكسية مع مربع المسافة الفاصلة بينهما. ومن هنا يمكننا الحديث ليس عن جاذبية بين جسمين فحسب، بل عن تفاعل جاذبي بين كل الأجسام.
قانون الجاذبية هذا يعرضه نيوتن في القسم الثالث والأخير من كتابه "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"؛ فبعدما بدأ كتابه هذا بمجموعة من التعريفات، عالج في المقالة الأولى ظواهر ومشاكل الحركة في أوساط غير مقاومة، ثم عالج في المقالة الثانية نفس الظواهر لكن في أوساط مقاومة (الماء كنموذج). أما المقالة الثالثة فقد عنونها بـ "نظام الكون" وفيها يطبق قوانين الحركات السابقة على حركات الكواكب والنجوم؛ معنى هذا أن قانون الجاذبية بالنسبة لنيوتن هو أولا جواب على مشكل الحركة قبل أن يكون حلا للظاهرة الكسمولوجية.
فقد أخضعت لهذا القانون الرياضي البسيط ـ الهام الظاهرة العامة الملاحظة في الكون وهي ظاهرة سقوط الأجسام، حيث سيؤكد نيوتن أن الفيزياء الأرضية والميكانيكا السماوية ما هي إلا فيزياء واحدة وعلم واحد. كما استطاع قانون الجاذبية أن يعطينا الجواب عن السؤال الجوهري الذي ظل معلقا منذ الثورة الكوبرنيكية من المسؤول عن حركة الكواكب؟
يشير نيوتن إلى أنه يتصور التفاعل الجاذبي كخدعة رياضية أكثر منه حقيقة فيزيائية، فإذا كانت الأجسام ـ الأجسام السماوية خصوصا- تتجاذب فيما بينها بقوة ما، فإن نيوتن عزم على تحديد مقدار هذه القوة وأثر فعلها الديناميكي وهذا ما نجح في تحقيقه في السنوات1665 -1666 حيث توصلت حساباته إلى قانون الجذب بحسب قاعدة عكس الشعاع؛ فالكواكب تنجذب في اتجاه الشمس بسبب قوة متناسبة عكسيا مع مربع المسافة. وبعد ذلك فاكتشاف قانون الجاذبية في صيغته النهائية سيتأسس على مبدأ العطالة السالف الذكر.
فقانون العطالة ينص على أنه إذا لم يؤثر شيء في جسم يتحرك على خط مستقيم وبسرعة ثابتة فإن هذا الجسم يستمر في حركته بالسرعة نفسها وعلى المستقيم نفسه؛ لكن حسب المشاهدات نلاحظ أن الأجسام السماوية تدور في مدارات مغلقة وهي بالضبط مدارات إهليلجية حسب ما تنص عليه قوانين كبلر، والسؤال الذي طرحه نيوتن هنا هو لماذا لا تذهب الكواكب في خط مستقيم؟ وما مغزى ذلك؟ بمعنى آخر، إذا كان كبلر قد وصف كيف تتحرك الكواكب، فإن نيوتن أراد أن يعرف من الذي يجعل الكواكب تتخذ هذه الحركات؟ فأعطى الجواب التالي لابد من قوة تحرف الكواكب في كل مرة عن الاستقامة في حركاتها وتجعلها تدور حسب قوة مركزية، هذه القوة لا يمكن أن تكون إلا الشمس.
إن المسار المنحرف الذي تتخذه حركات الكواكب يمكن تفسيره بأنه ناتج عن تحرف للحركة العطالية بواسطة قوة مركزية جاذبة هي قوة جاذبية الشمس، هكذا اكتشف نيوتن قانون الجاذبية الكونية سنة 1684 قبل أن يعلن عنه في كتاب المبادئ سنة 1687. وانطلاقا من هذا القانون استطاع نيوتن أن يستخلص منه قوانين أخرى وعلى رأسها قانون المساحات كما وضعه كبلر.
لقد نسجت حكاية حول هذا الاكتشاف العظيم تقول أنه ذات مساء جلس نيوتن وهو لا يزال شابا طالبا تحت شجرة التفاح، فلاحظ تفاحة تسقط على الأرض عندها رفع عينيه إلى السماء فلاحظ القمر يرسل أشعته نحو الأرض، وعند ذلك وضع فرضيته القائلة بأن القوة الجاذبة المؤثرة على التفاحة الساقطة نحو الأرض لابد وأن تكون لها علاقة مع القوة التي تجعل القمر حبيس مداره فرد هاتين القوتين إلى قوة جاذبة تمارسها الأرض على جميع الأجسام، وافترض أن فاعلية هذه القوة الجاذبة تتناقص بتزايد المسافة بين الأجسام.
وحتى يتحقق من صحة هذه الفرضية قارن بين القوة المؤثرة على القمر والتفاحة وبهذه الكيفية توصل إلى قانونه المشهور حول الجاذبية الكونية الذي مفاده أن كل الأجسام تتجاذب فيما بينها بقوة تتناسب طردا مع كتلتها وعكسا مع مربع مسافتها.
ورغم عدم التأكد من صحة هذه الحكاية وعدم وجود أي دليل عليها، فإن نيوتن قد اتخذ من جاذبية الأرض للقمر ودورانه حولها مجرد نموذج مصغر للدوران الذي تعرفه مكونات المنظومة الشمسية برمتها.
فجواب نيوتن عن السؤال لماذا لا يسقط القمر على الأرض؟ هو أن القمر يسقط ولا يسقط؛ بمعنى أنه في حقيقته يسقط، لكن مقاومته للجاذبية تجعله يتبع مسارا منحرفا في كل لحظة زمنية جد قصيرة، وبالتالي يظل مشدودا إلى الأرض يدور حولها وهي حيث تحمله معها أينما تحركت، ولو فشل في مقاومته لجاذبية الأرض لسقط عليها متبعا قانون سقوط الأجسام كما حدده غاليليو، أما لو استطاع الانفلات من جاذبية الأرض فإنه سيسير بحركة منتظمة وفي خط مستقيم كما ينص على ذلك قانون العطالة.
إن فكرة الجاذبية أدمجت كوكبنا الأرضي مع مجموع الكون في نفس الوقت الذي أدخلته في سلسلة القوى الرابطة بين الأجرام السماوية. وبوضعه لهذا القانون الهام استطاع نيوتن تفسير عددا من الظواهر كحركة القمر حول الأرض وحركات الكواكب حول الشمس بما فيها المذنبات التي رغم الاختلاف المركزي الشديد لمداراتها ـ حتى أنها تتخذ مدارات شبه مفتوحةـ فإنها تخضع لنفس القانون.
كما مكن قانون الجاذبية نيوتن من تحقيق هدف كبلر المتمثل في خلق فيزياء مؤسسة على السببية، حيث فسر السببية الفيزيائية بواسطة ميكانيكاه السماوية وأسسها على وسيلة رياضية هامة كان نيوتن قد ابتكرها بنفسه ليعتمدها في أبحاثه الديناميكية وهي حساب التكامل والتفاضل. فرغم كون كبلر قد تمكن من وضع وصف دقيق لحركات الكواكب وتقديم إجابة كاملة على كيفية تحرك هذه الكواكب حول الشمس، إلا أنه ظل جاهلا أسباب هذه الحركات. فقوانينه تناولت حركات الأجرام السماوية كمقاربة إجمالية عامة، أي هي متعلقة بالحركة ككل، ولهذا فهي قوانين تكاملية وغير كافية لإمدادانا بتفسير سببي.
بينما قانون الجاذبية قانون تفاضلي يسمح بحساب حركة الأجسام السماوية إذا كنا على علم في لحظة ما بحالة جميع هذه الأجرام من الحركة. ولم يصل نيوتن إلى صياغة القوانين التي تنطبق على أية حركة كانت إلا بدراسة ما يحدث في فترة متناهية في الصغر. فدراسة تفاضلية لمسار المقذوفات مثلا لا تتم إلا بتقطيع هذا المسار إلى قطع أو عناصر صغيرة جدا وملاحظة الحركة التي تحدث في كل واحدة من هذه القطع، وهذا ما يتيحه حساب التفاضل. ونفس هذا الحساب يطبق على دراسة مدارات الكواكب فيسمح بتقدير الحالات السابقة واللاحقة لأي كوكب ابتداء من حالته في لحظة ما.
لقد أتاح قانون الجاذبية التنبؤ بانحرافات مدارات الكواكب انطلاقا من حساب حالاتها الراهنة، وإضافة إلى ذلك أتاح تفسير حركة المد والجزر باعتبارها مرتبطة بالقمر وناتجة عن جذبه لكتل المياه الهائلة الموجودة على سطح الكرة الأرضية؛ كما مكن تفسير تفلطح الكرة الأرضية وانبعاجها عند خط الاستواء باعتباره ناتجا عن دورانها السريع في هذه المنطقة تحت تأثير جاذبية الشمس. وبذلك يكون نيوتن قد أعطى للكتل تأثيرا تحريكا بسبب جذبها لبعضها البعض بعدما كان ينظر إليها في السابق على أنها هامدة عديمة التأثير، مما حل بعض مسائل علم الفلك وأسس بذلك ميكانيكا الأجرام السماوية، فتوحدت الفيزياء الأرضية بالفيزياء السماوية في منظومة علمية مندمجة فتحت لطموحات العلماء آفاق واسعة لدراسة الظواهر الفلكية والفيزيائية. وخير دليل على ذلك هو اكتشاف كوكب نبتون اعتمادا فقط على الحسابات الفلكية المعززة بفيزياء نيوتن ورياضياته المتمثلة أساسا في حساب التكامل والتفاضل.
وقد استمر أثر النسق النيوتوني القائم على أساس تصور ميكانيكي للكون ساريا إلى حدود نهاية القرن19، حيث شكل، ولمدة تقارب القرنين والنصف من الزمن، نموذجا للعلم الناجح والفعال ومثالا للنظرية الفيزيائية والبناء العلمي، ومنهجا لكل العلماء الذين يبحثون في الفيزياء النظرية.
وخير شهادة نسوقها على عظمة نيوتن وأهميته في التاريخ العلمي هي شهادة أحد أكبر علماء الفيزياء خلال القرن العشرين وواضع نظرية النسبية البيرت إنشتاين حيث يقول"لم يكن نيوتن ألمعيا لأنه اخترع بعض الطرق المفتاحية التي حددت مجرى الفكر البشري فحسب، بل لأنه أحاط بشكل فريد بكل عناصر المعرفة التجريبية التي وصل إليها الإنسان في عصره، ولقد كان آية في الإعجاز في اختراع وسائل البرهنة الرياضية والفيزيائية المفضلة، لكل هذا يستحق نيوتن كل إعجابنا وأعمق تقديرنا"
إلا أن نظرية نيوتن العلمية هاته لم تسلم من بعض العيوب التي بقيت ملازمة لها حتى لاحت في الأفق معالم نظرية النسبية تنذر بتجاوز هذا الصرح العظيم، من بينها أساسا الاعتراف بوجود الأثير- الذي يملأ الفضاء الكوني- كوسط يتم خلاله الجذب والتأثير عن بعد وكوسط ناقل للأمواج الضوئية والكهربائية والمغناطيسية، حيث الكواكب تسبح بحركة مطلقة في هذا الأثير الساكن الذي ينتج عنه زمان مطلق ومكان مطلق.
تعليقات
إرسال تعليق